البيانات كأصل وطني: لماذا الثقة تبدأ من جودة البيانات؟

هل يمكن للدولة أن تُخطئ لمجرد أنها لا تعرف نفسها؟ هذا المقال يكشف كيف تصنع البيانات الموثوقة الفرق بين قرار دقيق وآخر مكلف، ويأخذك في رحلة داخل أحد أذكى نماذج العالم في إدارة البيانات: سنغافورة، حيث المعلومة سلطة، والمعرفة مؤسسة.

البيانات كأصل وطني: لماذا الثقة تبدأ من جودة البيانات؟
البيانات ليست دعمًا للقرار… بل قرار بحد ذاته


في عالمٍ يتغيّر أسرع من أن تُلحقه الحدس والتجربة، لم يعد القرار الصائب نتاج وفرة البيانات، بل نتاج موثوقيتها وتنظيمها. اليوم، تصنع الدول الذكية تفوقها من قدرتها على معرفة نفسها بالأرقام قبل أن تُعرفها الشعارات. ومع تزايد التحديات في بيئات العمل الحكومية والمؤسسية، برز سؤال حاسم: من يمتلك القدرة على تحويل البيانات من أرقام متناثرة إلى سلطة معرفية تصنع القرار؟

البيانات كأصل وطني اقتصادي

في الاقتصاد الحديث، لم تعد القيمة محصورة في الأصول المادية، بل باتت تُخلق وتُضاعف عبر الأصول غير الملموسة. ومن بين هذه الأصول، تُعد البيانات الموثوقة من أبرز المحركات الجديدة للنمو والسيادة الاقتصادية. تصفها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) بأنها “الوقود الجديد للاقتصاد الرقمي”، بينما يشير المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF, 2020) إلى أنها “عامل الإنتاج الرابع” بعد الأرض والعمل ورأس المال، لما لها من تأثير مباشر على الكفاءة، الابتكار، وسرعة التكيف مع التغيرات الاقتصادية.

وفقًا لتقديرات OECD، من المتوقع أن يتجاوز حجم الاقتصاد القائم على البيانات في الاتحاد الأوروبي وحده 829 مليار يورو بحلول عام 2025، أي ما يعادل نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي. وتعكس هذه الأرقام واقعًا عالميًا متسارعًا، حيث أصبحت الدول تتنافس ليس فقط على الموارد الطبيعية، بل على جودة البيانات، وسرعة معالجتها، والقدرة على اتخاذ قرارات مستندة إليها بثقة ومرونة.

تؤكد تجارب الدول الناشئة أن البيانات أصبحت مكوّنًا بنيويًا في قراراتها المالية، بدءًا من تصميم الميزانيات وحتى إدارة الدَّين العام. فعلى سبيل المثال، تعتمد وكالات التصنيف الائتماني على مؤشرات دقيقة لتقدير ملاءة الدولة، واستقرارها المالي، ومدى قدرتها على الوفاء بالتزاماتها. وكلما كانت تلك المؤشرات ناتجة عن منظومة بيانات موثوقة، كلما كانت قرارات المستثمرين والمؤسسات الدولية أكثر إيجابية وأقل تحفظًا.

علاوة على ذلك، فإن خطط التحول الاقتصادي، وبرامج التخصيص، ومبادرات النمو غير النفطي تعتمد بشكل كبير على توافر بيانات تفصيلية عالية الجودة عن السوق، وسلوك المستهلك، وفعالية الدعم الحكومي، والقدرة التشغيلية للقطاعات. وبدون منظومة بيانات موحدة وموثوقة، تصبح هذه البرامج معرضة للانحراف أو الفشل في تحقيق أهدافها الإستراتيجية.

وبذلك، لم تعد البيانات مجرد مدخلات لدوائر التحليل، بل أصبحت بنية تحتية اقتصادية بحد ذاتها، تتطلب تخطيطًا، تمويلًا، وحوكمة، كما هو الحال مع شبكات الطاقة أو النقل. إن الدول التي تتعامل مع البيانات بهذه العقلية تحصد مزيدًا من الثقة، السيولة، والسيادة، بينما تظل الدول التي تغفل هذه الحقيقة رهينة للتقارير الخارجية، والتقديرات غير الدقيقة، والتقلبات غير المتوقعة في اقتصاداتها.

البيانات الموثوقة وعلاقتها بالثقة في السياسات العامة

لا يمكن للسياسات العامة، مهما بلغت من اتقان في التصميم أو الطموح في الأهداف، أن تحظى بثقة المواطن والمستثمر ما لم تستند إلى بيانات موثوقة، يمكن تتبعها وتقييمها. فالثقة، في جوهرها، لا تُمنح للدولة بوصفها سلطة، بل تُمنح لمصداقية قراراتها، ولمنهجية إنتاج المعرفة التي بنيت عليها تلك القرارات.

يشير البنك الدولي (World Bank, 2021) إلى أن “ضعف جودة البيانات يزيد من عدم اليقين في الأسواق، ويزيد تكلفة التمويل الخارجي، ويؤثر سلبًا على الثقة في التخطيط المالي طويل الأجل.” ويؤكد التقرير ذاته أن وجود نظام بيانات وطني قوي يرتبط مباشرة بانخفاض عجز الميزانية، وتحسن القدرة التنبؤية لمؤشرات الاقتصاد الكلي.

ولعل أوضح الأمثلة على ذلك يتمثل في ما يُعرف بـ "علاوة المخاطر السيادية"، حيث تفرض الأسواق نسب فائدة أعلى على الدول التي تفتقر إلى بيانات اقتصادية دقيقة ومحدثة، نتيجة عدم قدرتها على تقييم المخاطر الفعلية بشكل دقيق. وفي المقابل، فإن الدول التي أنشأت هياكل مؤسسية مستقلة لإنتاج ونشر البيانات، مثل مراكز الإحصاء المستقلة، حصلت على تحسينات ملموسة في تصنيفها الائتماني، وتوسعت قاعدة تمويلها الدولي.

وقد نشر صندوق النقد الدولي (IMF, 2022) تحليلًا لعدد من الدول النامية، أظهر أن كل تحسّن بمقدار درجة واحدة في تقييم “جودة البيانات الوطنية” يُقابل بانخفاض في تكلفة الإقراض السيادي بنسبة تصل إلى 0.4 نقطة مئوية، وهي نسبة تُترجم إلى مئات الملايين من الدولارات سنويًا في الدول ذات الإنفاق الرأسمالي المرتفع.

أما على مستوى الثقة المجتمعية، فقد أظهرت دراسة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD, 2020) أن ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة ترتفع بشكل واضح في الدول التي تتبنى سياسات "البيانات المفتوحة" (Open Data) وتوفر إمكانية الوصول إلى مصادرها، مقارنة بالدول التي تحجب البيانات أو تقدمها بشكل غير شفاف. في حالات الأزمات الصحية، كما في جائحة كورونا، ثبت أن البلدان ذات البيانات المفتوحة حظيت بامتثال مجتمعي أعلى للإجراءات، وبثقة أكبر في الرسائل الرسمية، مما انعكس على سرعة التعافي الاقتصادي والاجتماعي. بالتالي، فإن البيانات الموثوقة لا تُعزز كفاءة القرار فقط، بل تخلق بيئة من الثقة العامة، تخفض من مخاطر السياسات، وتزيد من فاعلية التنفيذ، وتُحسن من جودة الحوار بين الدولة والمجتمع.

عناصر بناء البيانات الموثوقة في الاقتصاد

في النماذج المالية الكلية، وحتى في أبسط ميزانيات الدولة، هناك افتراض أساسي غالبًا ما يُغفل عند تحليل نتائج السياسات: أن البيانات التي بُني عليها القرار صحيحة منذ البداية. وهذا الافتراض، حين يكون هشًا، يُقوّض فعالية السياسات مهما بلغت من كفاءة تصميمها. لذلك، فإن بناء بيانات موثوقة ليس عملاً تقنيًا فقط، بل هو قرار سيادي يعادل وضع قواعد اللعبة الاقتصادية.

ومن خلال مراجعة السياسات الاقتصادية للدول ذات النماذج المالية المستقرة، والتقارير الصادرة عن IMF وOECD وWorld Bank، يمكن القول إن هناك أربعة محاور رئيسة تُحدد ما إذا كانت بيانات الدولة مؤهلة لأن تُبنى عليها قرارات اقتصادية طويلة الأجل:

أولًا: البنية المؤسسية المنتجة للبيانات

الموثوقية لا تبدأ من الأداة المستخدمة، بل من الجهة التي صممتها. هل الجهة المنتِجة للبيانات تتمتع باستقلال مؤسسي؟ هل تخضع لرقابة تشريعية؟ هل لديها فصل وظيفي بين الإنتاج والتحليل والتفسير؟ في الدول التي حققت استقرارًا ماليًا واضحًا، مثل كندا وهولندا وسنغافورة، تُدار البيانات الاقتصادية من قبل كيانات مستقلة قانونيًا عن السلطة التنفيذية، ولها لوائحها الخاصة ومسؤوليتها المباشرة أمام البرلمان. هذا الاستقلال يقلل من تسييس البيانات ويعزز الثقة لدى المستثمرين وصنّاع القرار.

ثانيًا: جودة التصميم المنهجي لأدوات جمع البيانات

التصميم المنهجي للبيانات لا يقتصر على الدقة الإحصائية، بل يتعداها إلى مدى قدرة الأداة على قياس الظاهرة الاقتصادية محلّ الدراسة. فقياس البطالة مثلًا، أو دخل الأسر، أو حجم الاقتصاد غير الرسمي، يتطلب أدوات مصممة خصيصًا للبيئة المحلية، مع إدراك الفروقات الثقافية والسلوكية. وقد أشار تقرير IMF Technical Note on Data Collection Bias (2021) إلى أن 45% من انحراف تقديرات العجز المالي في الدول النامية تعود إلى أدوات قياس غير متكيفة مع الواقع المحلي، لا إلى خلل في التحليل الاقتصادي نفسه.

ثالثًا: تكامل سلاسل البيانات عبر الجهات الحكومية

أحد أخطر أوجه ضعف البيانات في الدول النامية هو تعدد النسخ من الحقيقة الواحدة. حيث تصدر كل جهة رقمًا مختلفًا عن التضخم أو البطالة أو الدعم الاجتماعي. وهذا التنافر بين الجهات يؤدي إلى تفكك في التقدير المالي الوطني، ويضعف كفاءة التخصيص بين القطاعات. بناء البيانات الموثوقة يعني وجود بنية حوكمة تُلزم الجهات بتوحيد المفاهيم، ومشاركة قواعد البيانات، وربط المعلومات الزمنية والمكانية داخل إطار مشترك. وقد أثبتت تجربة Estonia X-Road Platform في أوروبا الشرقية أن التكامل بين ٣٢ جهة حكومية خفّض الزمن اللازم لإعداد التقارير الاقتصادية بنسبة 60%، ورفع دقة تقديرات السيولة والإنفاق بشكل غير مسبوق.

رابعًا: أمن البيانات وصلاحية سلسلة القيمة المعرفية

في عالم تحوّلت فيه البيانات إلى أصل اقتصادي يُستثمر ويُهاجَم، لا يمكن اعتبار الموثوقية مكتملة دون بنية سيبرانية تؤمن حماية متواصلة للبيانات الحساسة. التقارير المالية لا تكتسب قوتها من الجداول فحسب، بل من قدرة المسؤول المالي على القول بثقة: “هذه البيانات لم تُعدل، ولم يُطّلع عليها خارج المسار الرسمي.” هذا الشعور بالأمان المعرفي ضروري في تمكين صانع القرار من توقيع قرارات المليارات، دون تردد أو خوف من التشكيك لاحقًا.

إن بناء البيانات الموثوقة في الاقتصاد ليس مجرد تحسين إحصائي، بل هو مشروع إعادة تأسيس للذاكرة الوطنية الرقمية، ومن دون هذا المشروع ستظل الدولة تدفع ثمن القرارات المبنية على تقديرات غير ناضجة، وتواجه فجوات مزمنة بين المخطط والمُنفذ، وبين ما يُعرض في القمة وما يعيشه المواطن في القاعدة.

الكُلفة الخفية للقرارات المبنية على بيانات ضعيفة

في الاقتصاد، ليس هناك قرار محايد. كل قرار له تكلفة، وتزداد هذه التكلفة بضعفين أو ثلاثة عندما يُبنى على بيانات غير دقيقة، أو جزئية، أو متأخرة زمنيًا. في هذا السياق، لا تمثّل البيانات الضعيفة مجرد خلل في الإدخال أو الحساب، بل تُصبح خللًا بنيويًا يُشوّه إدراك الدولة لواقعها، ويُفرغ أدواتها من الفاعلية، ويُراكم فجوات هيكلية في السياسات المالية والاقتصادية يصعب إصلاحها لاحقًا.

وقد أظهرت دراسة موسعة للبنك الدولي بعنوان “Data Gaps and Policy Effectiveness in Developing Economies” (2021) أن ما بين 0.8% إلى 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي في الدول النامية يُهدر سنويًا نتيجة قرارات مالية وتنموية استندت إلى بيانات ناقصة أو غير محدثة أو غير ممثلة للواقع الفعلي. يمكن تحليل هذه التكلفة من خلال ثلاثة مستويات متراكبة:

١. على مستوى المالية العامة:

البيانات الضعيفة تُخلخل قدرة الدولة على تقدير الإيرادات والنفقات، ليس فقط في التوقعات السنوية، بل في هيكلة النظام المالي بأكمله. فعلى سبيل المثال:

  • إذا قُدّرت الإيرادات الضريبية بأعلى من الواقع، تُبنى موازنات إنفاق تفوق القدرة التمويلية، ما يؤدي إلى عجز متكرر وارتفاع الاستدانة.

  • وإذا قُدّر الإنفاق الاجتماعي بناءً على بيانات غير محدثة عن الفقر أو الدخل، فقد يُوجّه الدعم إلى شرائح غير مستحقة، وتُهمل مناطق بحاجة ملحّة للتدخل.

وقد وثّقت IMF Public Expenditure Review (2020) حالات لدول أضاعت فرصًا لإعادة هيكلة الدعم بسبب غياب قواعد بيانات موحدة عن دخل الأسر وتوزيع الاستهلاك، ما أدى إلى استمرار برامج مُكلفة بلا أثر حقيقي على تحسين مستوى المعيشة.

٢. على مستوى السياسات القطاعية والاستثمارية:

في غياب بيانات قطاعية دقيقة، تُخطئ الدول في تقدير حجم الطلب، أو مستوى المخاطر، أو كفاءة الإنفاق، مما يؤدي إلى:

  • تضخيم تكلفة المشاريع الكبرى نتيجة التقدير الخاطئ للجدوى أو ضعف دراسات الأساس.

  • فشل السياسات الصناعية أو الزراعية في الوصول إلى أهدافها، بسبب ضعف تحليل سلاسل القيمة أو التغيرات السكانية والجغرافية.

تقرير McKinsey Global Institute (2021) يشير إلى أن فجوة البيانات في قطاعي التعليم والصحة في الدول متوسطة الدخل تسببت في توجيه ما يعادل 30 إلى 50 مليار دولار سنويًا نحو برامج غير فعالة أو ذات أثر محدود، فقط لأن نظم المعلومات لم تكن مؤهلة لرصد التحولات في احتياجات السكان.

٣. على مستوى السمعة السيادية والتمويل الدولي:

المؤسسات الدولية والمستثمرون الكبار لا يموّلون الخطط الطموحة، بل يمولون الدول التي تعرف نفسها بالأرقام. وعندما تكون بيانات الدولة غير موثوقة أو متناقضة أو متأخرة، تُعتبر الدولة “غامضة المخاطر”، وبالتالي تُفرض عليها:

  • علاوة مخاطر أعلى (Sovereign Risk Premium) في أسواق الدين.

  • شروط تمويل أشد من قبل صناديق التنمية والمؤسسات متعددة الأطراف.

  • انخفاض في التصنيف الائتماني الذي ينعكس تلقائيًا على كلفة القروض ومستوى التدفقات الاستثمارية.

وقد أظهر تحليل لوكالة S&P Global Ratings (2022) أن الدول التي تُصدر بياناتها المالية وفق المعايير الدولية (مثل GFS وSDDS) تتمتع بمتوسط تكلفة اقتراض أقل بنسبة 22% مقارنة بدول ذات نظم بيانات ضعيفة، حتى وإن كانت في نفس المستوى من العجز أو الدين.

الفشل التراكمي بسبب فجوات البيانات

خلال جائحة كوفيد-19، برزت فجوة ضخمة بين الدول التي كانت تمتلك نظم بيانات ديناميكية وقادرة على التقاط التغيرات اللحظية في سلوك الاقتصاد والمجتمع، مثل كوريا الجنوبية وفنلندا، وبين دول أخرى اضطرت إلى اتخاذ قرارات عامة وشاملة بسبب غياب بيانات دقيقة عن القطاعات المتأثرة، أو الفئات المعرضة للخطر، أو قدرات الاستجابة المؤسسية. هذه الفجوة لم تؤثر فقط على كفاءة الدعم الاقتصادي، بل تسببت في تفاوت كبير في سرعة التعافي. فوفقًا لتقرير OECD Economic Outlook (2021)، فإن الدول ذات المنظومات البيانية القوية استعادت مستويات الناتج المحلي السابقة للجائحة خلال 12 إلى 18 شهرًا، بينما امتدت فترة التعافي في الدول الأخرى إلى أكثر من 30 شهرًا، مع استمرار آثار سلبية على نسب الدين والبطالة.

كيف تستثمر الدول في جودة البيانات؟

في الاقتصاد السياسي المعاصر، لم تعد السيطرة على الأرض أو الموارد الطبيعية هي العلامة الوحيدة على السيادة، بل أصبحت القدرة على إنتاج المعرفة الدقيقة والمنضبطة عن الواقع الوطني هي القاعدة الجديدة التي تُبنى عليها كل أشكال الحكم الرشيد والسيطرة الاستراتيجية. ومن هنا، فإن الاستثمار في البيانات لا يُعد تحسينًا تقنيًا، بل قرارًا سياديًا يُعيد تعريف علاقة الدولة بالمعلومة، والقرار، والمال العام.

تشير دراسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن الدول التي ارتقت إلى مصاف "الاقتصادات ذات القرار المستقل" كانت تلك التي تعاملت مع البيانات بوصفها أصلًا إنتاجيًا ذا قيمة مالية ومعنوية وتخطيطية، تمامًا كما تتعامل مع الطاقة أو البنية التحتية. يمكن تحليل طبيعة هذا الاستثمار من خلال خمسة مسارات مترابطة، تُمثّل في مجموعها هندسة الدولة للمعرفة السيادية:

أولًا: الانتقال من جزر بيانات إلى سيادة معرفية مترابطة

غالبية الدول الناشئة تعاني من تفكك مؤسسي في إنتاج البيانات؛ حيث تنتج كل جهة بياناتها بمعاييرها، دون ربط أو تكامل. هذا التفكك يخلق فجوة معرفية تمنع الدولة من الحصول على "صورة موحدة للحقيقة". الاستثمار في البيانات يبدأ بإعادة هندسة هذه الصورة عبر:

  • إنشاء منصات رقمية متكاملة تُدمج البيانات من مختلف الوزارات والجهات.

  • اعتماد معرف موحد لكل فرد، وكل منشأة، وكل معاملة اقتصادية.

  • ربط قواعد البيانات التشغيلية بالتحليلية عبر أطر زمنية ومكانية موحدة.

وقد أدى هذا التكامل في دول مثل فنلندا وهولندا إلى تحسين دقة مؤشرات الناتج المحلي والبطالة والتضخم بمعدل تجاوز 15% خلال ثلاث سنوات، بحسب تقرير OECD Digital Government Review (2021).

ثانيًا: إنشاء كيانات مستقلة محمية سياسيًا وقانونيًا لإنتاج البيانات

من أهم شروط موثوقية البيانات أن لا تكون خاضعة للنفوذ السياسي أو التلاعب المؤسسي. لذلك أنشأت الدول المتقدمة كيانات إحصائية مستقلة بموجب تشريع خاص، يُحظر بموجبه التدخل في عمليات جمع أو تحليل أو نشر البيانات. مثل:

  • هيئة الإحصاء الكندية التي تُصدر بيانات النمو والبطالة قبل إعلان الحكومة للموازنة.

  • Statistik Austria التي تعمل مباشرة تحت إشراف البرلمان، وتملك صلاحيات مساءلة الجهات التنفيذية في حال رفضها التعاون أو تزويدها بالبيانات.

هذا النموذج يُعيد التوازن في إنتاج المعرفة بين السلطة التنفيذية والمؤسسات الرقابية والمجتمع.

ثالثًا: ترسيخ البنية التشريعية لحوكمة البيانات

لا قيمة للأنظمة الرقمية المتقدمة إذا لم تُحمَ بمنظومة تشريعية تُنظّم الملكية، والمسؤولية، والوصول، والمساءلة. وقد بنت الدول الأوروبية نظامًا تشريعيًا متكاملًا حول البيانات، يشمل:

  • حق الأفراد في معرفة وتعديل بياناتهم.

  • واجب الدولة في توثيق المنهجيات.

  • قواعد لإعادة استخدام البيانات الحكومية في الابتكار والاستثمار.

  • غرامات على التلاعب أو الإهمال في سلسلة البيانات.

هذا التشريع لا يحمي فقط الخصوصية، بل يرسّخ الثقة المؤسسية، ويُمكّن من إدراج البيانات ضمن الأصول العامة ذات القيمة الاقتصادية القابلة للتمويل والتقييم.

رابعًا: بناء قدرات تحليلية سيادية داخل الحكومة

البيانات دون قدرة على تفسيرها تشبه الذهب الخام دون مصفاة. لذلك استثمرت الدول المتقدمة في إنشاء وحدات داخل الوزارات تكون مسؤولة عن التحليل والتفسير والاقتراح المبني على البيانات. ويشمل هذا الاستثمار:

  • تأهيل كوادر في الاقتصاد الكلي، الإحصاء، علوم البيانات، والنمذجة المالية.

  • إنشاء شراكات مع الجامعات لبناء "وحدات دعم القرار" داخل الدولة.

  • اعتماد برامج تطوير مهني مستمر لموظفي القطاع العام في التعامل مع النماذج التنبؤية والمحاكاة والتكامل الإحصائي.

وقد أشار تقرير World Bank Data Literacy Index (2022) إلى أن العائد على كل دولار يُنفق في تدريب الكوادر التحليلية داخل الحكومات يصل إلى 6.4 دولار من تحسين كفاءة الإنفاق وتوجيه السياسات.

خامسًا: إدراج البيانات ضمن موازنات التنمية والتمويل الرأسمالي

في الكثير من الدول، لا تزال ميزانيات الإحصاء والمعلومات ضمن بند "الدعم الفني" أو "الخدمات المساندة"، بينما تُدرج الدول المتقدمة هذه الميزانيات ضمن الإنفاق التنموي الرأسمالي، لأنها:

  • تُنتج قيمة تراكمية عبر الزمن.

  • تُستخدم في تخفيض المخاطر السيادية.

  • تُعتبر شرطًا للشفافية ومؤشرًا للتقدم المؤسسي.

وقد بدأت مؤسسات التمويل الدولية مؤخرًا بتقديم قروض ومنح مشروطة بتحسين بيئة البيانات الوطنية، مثل مبادرة IMF Capacity Development Trust Fund التي خصصت تمويلًا للدول الراغبة في تطوير منظومات بياناتها ضمن إطار إصلاحات مالية واقتصادية شاملة.

نموذج سنغافورة: كيف تحوّلت البيانات إلى سلطة معرفية تحكم القرار؟

تُعد سنغافورة من أوائل الدول التي أدركت أن إدارة الدولة الحديثة لا تقوم فقط على توفر البيانات، بل على تنظيم إنتاجها، وحوكمتها، واستخدامها كقوة معرفية موحدة. لهذا، أنشأت نموذجًا متكاملًا يُعرف باسم "هندسة البيانات الحكومية"، يقوم على مفهوم السيادة المعرفية، ويُدار وفق بنية تنظيمية دقيقة تضمن أن تكون كل معلومة داخل الدولة جزءًا من نظام وطني متماسك، لا معلومة عابرة في أرشيف جهة منفردة.

المبدأ الأول: مصدر واحد للحقيقة – Single Source of Truth

في سنغافورة، لا يُسمح لأي جهة أن تُنتج بيانات عن ظاهرة ما دون أن تكون مُخوّلة بذلك. هناك جهات حكومية محددة تُعيَّن كمصدر وحيد وموثوق لما يُعرف بـ"بيانات الحقيقة"، مثل بيانات الأسرة، العقار، التعليم، أو النشاط الاقتصادي. هذه الجهات لا تملك البيانات فحسب، بل تُلزَم بتحديثها، توثيقها، وتحقيق جودتها. والهدف هو منع التضارب المؤسسي، وضمان أن القرارات في الدولة تُبنى على أساس رقمي موحد.

المبدأ الثاني: مراكز توزيع الثقة – Trusted Centres

لتفادي الفوضى التي تنتج من مشاركة البيانات بين عشرات الوزارات والمؤسسات، أنشأت سنغافورة مراكز موثوقة تقوم بدور الوسيط بين الجهات المالكة للبيانات والجهات التي تحتاجها. هذه المراكز لا تُنتج البيانات، بل تتولى دمجها، التحقق منها، والتحكم في الوصول إليها، ضمن بيئة تقنية وآمنة. كل طلب بيانات يخضع لسياسات واضحة، وسجلات تتبع كاملة، مما يجعل حركة البيانات في الدولة شفافة، قابلة للتدقيق، وخاضعة للمساءلة.

المبدأ الثالث: البنية التحتية الذكية – من النظام إلى التأثير

النموذج السنغافوري لا يكتفي بتحديد المسؤوليات، بل يبني بنية تحتية تُترجم ذلك إلى أنظمة عملية:

  • بوابات بيانات موحدة تسمح بالبحث والوصول السريع.

  • معرفات رقمية موحدة للأفراد والمنشآت تسهّل دمج قواعد البيانات.

  • واجهات برمجية مؤمنة تتيح تبادل البيانات بين الأنظمة المختلفة.

  • آليات تحليل لحظية تدعم القرارات في الوقت الفعلي.

هذه البنية لا تعمل بمعزل عن الأمن السيبراني، بل تتكامل معه؛ حيث تُعتمد بروتوكولات تشفير، وأنظمة تحكم في الأذونات، ومراجعات دورية تُقيِّم من يطّلع على ماذا، ولماذا، ومتى.

المبدأ الرابع: الحوكمة الصارمة والمعايير المتماسكة

سنغافورة لا تترك البيانات لرحمة الاجتهادات الفردية. بل وضعت قوانين وتنظيمات تُحدد ما يلي:

  • من يُسمح له بجمع البيانات؟

  • ما هي المعايير التي يجب أن تتبعها عملية التوثيق؟

  • كيف تُستخدم البيانات، ولأي أغراض؟

  • من يُحاسب عند وقوع اختراق أو إساءة استخدام؟

هذا النظام جعل من كل معلومة تُستخدم في السياسات أو الخدمات، معلومة يمكن تتبّعها، فهم مصدرها، وتقييم أثرها. وهنا تتجلى القيمة الحقيقية للثقة في البيانات: ليست فقط في دقتها، بل في قابلية التحقق منها ومساءلة من استخدمها.

النتائج: سيادة معرفية تتجاوز الورق

ما حققته سنغافورة من خلال هذا النموذج لم يكن مجرد تحسين في كفاءة العمل الحكومي، بل بناء لسلطة معرفية مركزية.

  • تم تقليص الزمن اللازم لإعداد التقارير الحكومية من أشهر إلى أيام.

  • أصبحت الخدمات الاجتماعية تُقدّم بناء على بيانات محدثة دون الحاجة لإعادة التقديم.

  • يمكن لكل صانع قرار أن يطّلع على الأثر المتوقع لأي سياسة قبل تنفيذها، بناءً على بيانات حيّة ومنسّقة.

  • أصبحت الحكومة قادرة على الاستجابة للأزمات، مثل الجائحة، بدقة ومرونة، بفضل تدفق البيانات المتكامل.

الدرس الأهم:

لم تضع سنغافورة ثقتها في التقنية وحدها، بل في النظام الذي يُحكِم تدفّقها. لم تتعامل مع البيانات كملف في خادم، بل كمؤسسة مستقلة لها ضوابطها ومكانتها. هكذا بُنيت الثقة، وهكذا تحوّلت البيانات من أرقام إلى قرارات، ومن ملفات إلى سياسات، ومن معلومات إلى سلطة.

كيف يمكن للمنظمات الاستفادة من خبرات IDM في بناء الثقة عبر البيانات؟

في ظل ما استعرضناه من أهمية البيانات الموثوقة كأساس للقرار الوطني، ومثال سنغافورة كنموذج متكامل للحوكمة المعرفية، يصبح من الضروري أن تمتلك الجهات الحكومية والقطاعات الوطنية شريكًا محليًا قادرًا على تحويل هذه الرؤية إلى واقع فعلي في بيئة المملكة.

وهنا تبرز IDM – Informed Decision Making كشركة سعودية متخصصة تمتلك الخبرة، والمنهجيات، والتقنيات اللازمة لتنفيذ نماذج متقدمة لإدارة البيانات، بدءًا من تصميم أدوات جمع البيانات وفق أعلى المعايير العلمية، مرورًا ببناء مصادر الحقيقة المؤسسية (SSOT)، وتطوير مراكز البيانات الموثوقة، ووصولًا إلى إنشاء بنية متكاملة لتشارك البيانات والتحليل الفوري الداعم للقرار ( الخدمات ذات العلاقة).

IDM ليست مجرد شركة تحليل بيانات، بل بيت خبرة وطني يعتمد على فريق علمي وتقني متخصص، نفّذ مشاريع على المستوى الوزاري والوطني، ويُعد اليوم أحد المصادر الموثوقة لتنفيذ هذا النوع من المبادرات في المملكة. إذا كانت منظمتك تسعى لبناء بنية معرفية تُعزز ثقة المستفيد، وتُدعم كفاءة القرار، وتُهيئ للاستجابة المؤسسية الفعالة... فإن IDM هي بوابتك الآمنة نحو مستقبل قائم على البيانات الموثوقة.